فصل: (سورة المؤمنون: الآيات 78- 80).

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



. [سورة المؤمنون: الآيات 78- 80].

{وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأرض وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (80)}.
إنما خصّ السمع والأبصار والأفئدة، لأنه يتعلق بها من المنافع الدينية والدنيوية ما لا يتعلق بغيرها. ومقدمة منافعها أن يعملوا أسماعهم وأبصارهم في آيات اللّه وأفعاله، ثم ينظروا ويستدلوا بقلوبهم. ومن لم يعملها فيما خلقت له فهو بمنزلة عادمها، كما قال اللّه تعالى {فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إذ كانوا يجحدون بآيات اللّه}، ومقدمة شكر النعمة فيها الإقرار بالمنعم بها، وأن لا يجعل له ندّ ولا شريك، أى: تشكرون شكرا قليلا، وما مزيدة للتأكيد بمعنى حقا {ذَرَأَكُمْ} خلقكم وبثكم بالتناسل {وَإِلَيْهِ} تجمعون يوم القيامة بعد تفرّقكم {وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ} أي هو مختص به وهو متوليه، ولا يقدر على تصريفهما غيره. وقرئ: {يعقلون} بالياء عن أبى عمرو.

. [سورة المؤمنون: الآيات 81- 83].

{بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ (81) قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُرابًا وَعِظامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83)}.
أى: قال أهل مكة كما قال الكفار قبلهم. الأساطير: جمع أسطار: جمع سطر.
قال رؤبة:
إنّى وأسطار سطرن سطرا

وهي ما كتبه الأوّلون مما لا حقيقة له. وجمع أسطورة أوفق.

. [سورة المؤمنون: الآيات 84- 89].

{قُلْ لِمَنِ الأرض وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89)}.
أى أجيبونى عما استعلمتكم منه إن كان عندكم فيه علم، وفيه استهانة بهم وتجويز لفرط جهالتهم بالديانات: أن يجهلوا مثل هذا الظاهر البين. وقرئ: {تذكرون} بحذف التاء الثانية ومعناه: أفلا تتذكرون فتعلموا أنّ من فطر الأرض ومن فيها اختراعا، كان قادرا على إعادة الخلق، وكان حقيقا بأن لا يشرك به بعض خلقه في الربوبية. قرئ الأوّل باللام لا غير. والأخيران باللام، وهو هكذا في مصاحف أهل الحرمين والكوفة والشام، وبغير اللام وهو هكذا في مصاحف أهل البصرة، فباللام على المعنى، لأن قولك من ربه، ولمن هو في معنى واحد، وبغير اللام على اللفظ. ويجوز قراءة الأوّل بغير لام، ولكنها لم تثبت في الرواية {أَفَلا تَتَّقُونَ} أفلا تخافونه فلا تشركوا به وتعصوا رسله. أجرت فلانا على فلان: إذا أغثته منه ومنعته، يعنى: وهو يغيث من يشاء ممن يشاء، ولا يغيث أحد منه أحدا {تُسْحَرُونَ} تخدعون عن توحيده وطاعته. والخادع: هو الشيطان والهوى.

. [سورة المؤمنون: الآيات 90- 92].

{بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (90) مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92)}.
وقرئ: {أتيتهم} و{أتيتهم} بالفتح والضم بِالْحَقِّ بأن نسبة الولد إليه محال والشرك باطل {وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ} حيث يدعون له ولدا ومعه شريكا {لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ} لا نفرد كل واحد من الآلهة بخلقه الذي خلقه واستبدّ به، ولرأيتم ملك كل واحد منهم متميزا من ملك الآخرين، ولغلب بعضهم بعضا كما ترون حال ملوك الدنيا ممالكهم متمايزة وهم متغالبون، وحين لم تروا أثرا لتمايز الممالك وللتغالب، فاعلموا أنه إله واحد بيده ملكوت كل شيء. فإن قلت: إذا لا تدخل إلا على كلام هو جزاء وجواب، فكيف وقع قوله لذهب جزاء وجوابا ولم يتقدّمه شرط ولا سؤال سائل؟ قلت: الشرط محذوف تقديره: ولو كان معه آلهة. وإنما حذف لدلالة قوله: {وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ} عليه. وهو جواب لمن معه المحاجة من المشركين {عَمَّا يَصِفُونَ} من الأنداد والأولاد {عالِمِ الْغَيْبِ} بالجرّ صفة للّه. وبالرفع: خبر مبتدإ محذوف.

. [سورة المؤمنون: الآيات 93- 95].

{قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ (95)}.
ما والنون: مؤكدتان، أى: إن كان لابد من أن تريني ما تعدهم من العذاب في الدنيا أو في الآخرة {فَلا تَجْعَلْنِي} قرينا لهم ولا تعذبني بعذابهم. عن الحسن: أخبره اللّه أن له في أمته نقمة ولم يخبره أفى حياته أم بعد موته، فأمره أن يدعو بهذا الدعاء. فإن قلت: كيف يجوز أن يجعل اللّه نبيه المعصوم مع الظالمين، حتى يطلب أن لا يجعله معهم؟ قلت: يجوز أن يسأل العبد ربه ما علم أنه يفعله، وأن يستعيذ به مما علم أنه لا يفعله، إظهارا للعبودية وتواضعا لربه، وإخباتا له. واستغفاره صلى الله عليه وسلم إذا قام من مجلسه سبعين مرة أو مائة مرة لذلك، وما أحسن قول الحسن في قول أبى بكر الصديق رضي الله عنهما: وليتكم ولست بخيركم: كان يعلم أنه خيرهم، ولكن المؤمن يهضم نفسه. وقرئ: {إما ترئنهم} بالهمز مكان تريني، كما قرئ: {فإما ترئن} و{لترؤن الجحيم} وهي ضعيفة. وقوله: {رَبِّ} مرتين قبل الشرط وقبل الجزاء، حث على فضل تضرع وجؤار. كانوا ينكرون الموعد بالعذاب ويضحكون منه واستعجالهم له لذلك، فقيل لهم: إن اللّه قادر على إنجاز ما وعد إن تأملتم، فما وجه هذا الإنكار؟

. [سورة المؤمنون: آية 96].

{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ (96)}.
هو أبلغ من أن يقال: بالحسنة السيئة، لما فيه من التفضيل، كأنه قال: ادفع بالحسنى السيئة.
والمعنى: الصفح عن إساءتهم ومقابلتها بما أمكن من الإحسان، حتى إذا اجتمع الصفح والإحسان وبذل الاستطاعة فيه: كانت حسنة مضاعفة بإزاء سيئة. وهذه قضية قوله: {بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} وعن ابن عباس رضي الله عنهما: هي شهادة أن لا إله إلا اللّه. والسيئة: الشرك.
ومن هذا القبيل ما يحكى عن أشعب الماجن أنه قال. نشأت أنا والأعمش في حجر فلان، فما زال يعلو وأسفل حتى استوينا، بمعنى أنهما استويا في بلوغ كل منهما الغاية: أشعب بلغ الغاية على السفلة. والأعمش: بلغ الغاية على العلية، هذا تفسير كلامه عن نفسه، ونعود إلى الآية فنقول: هي تحتمل وجها آخر من التفضيل أقرب متناولا: وهو أن تكون المفاضلة بين الحسنات التي تدفع بها السيئة، فإنها قد تدفع بالصفح والاغضاء، ويقنع في دفعها بذلك، وقد يزاد على الصفح الإكرام وقد تبلغ غايته ببذل الاستطاعة، فهذه الأنواع من الدفع كلها دفع بحسنة، ولكن أحسن هذه الحسنات في الدفع هي الأخيرة، لاشتمالها على عدد من الحسنات، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأحسن الحسنات في دفع السيئة. فعلى هذا تجرى المفاضلة على حقيقتها من غير حاجة إلى تأويل، واللّه أعلم. فتأمله فانه حسن جدا.
وعن مجاهد: السلام: يسلم عليه إذا لقيه. وعن الحسن: الإغضاء والصفح. وقيل: هي منسوخة بآية السيف. وقيل: محكمة لأنّ المداراة محثوث عليها ما لم تؤدّ إلى ثلم دين وإزراء بمروءة بِما يَصِفُونَ بما يذكرونه من أحوالك بخلاف صفتها. أو بوصفهم لك وسوء ذكرهم، واللّه أعلم بذلك منك وأقدر على جزائهم.

. [سورة المؤمنون: الآيات 97- 98].

{وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98)}.
الهمز: النخس. والهمزات: جمع المرّة منه. ومنه: مهماز الرائض. والمعنى أنّ الشياطين يحثون الناس على المعاصي ويغرونهم عليها، كما تهمز الراضة الدواب حثا لها على المشي. ونحو الهمز الأزّ في قوله تعالى: {تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} أمر بالتعوّذ من نخساتهم بلفظ المبتهل إلى ربه، المكرّر لندائه، وبالتعوذ من أن يحضروه أصلا ويحوموا حوله. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: عند تلاوة القرآن. وعن عكرمة: عند النزع.

. [سورة المؤمنون: الآيات 99- 100].

{حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحًا فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)}.
{حَتَّى} يتعلق بيصفون، أى: لا يزالون على سوء الذكر إلى هذا الوقف. والآية فاصلة بينهما على وجه الاعتراض والتأكيد للإغضاء عنهم، مستعينا باللّه على الشيطان أن يستزله عن الحلم ويغريه على الانتصار منهم. أو على قوله: {وإنهم لكاذبون} خطاب اللّه بلفظ الجمع للتعظيم، كقوله:
فإن شئت حرّمت النّساء سواكم

وقوله:
ألا فارحمونى يا إله محمّد

ألا استفتاحية دالة على الاهتمام بما يعقبها من الكلام، وخاطب الاله الواحد الأحد بخطاب الجمع جريا على عادة العرب من خطاب السادة والملوك بذلك تعظما. وقيل: هو إشارة إلى تكرار الفعل للتوكيد، كأنه قيل: ارحمني ارحمني ارحمني، وإضافته إلى محمد صلى الله عليه وسلم للتوسل به إلى اللّه عز وجل، فان لم أكن أهلا لهذا الطلب أو المطلوب من الرحمة والرفق فأنت يا اللّه أهل له.
إذا أيقن بالموت واطلع على حقيقة الأمر، أدركته الحسرة على ما فرّط فيه من الإيمان والعمل الصالح فيه، فسأل ربه الرجعة وقال لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحًا في الإيمان الذي تركته، والمعنى:
لعلى آتى بما تركته من الإيمان، وأعمل فيه صالحا، كما تقول: لعلى أبنى على أس، تريد: أسس أسا وأبنى عليه. وقيل: فيما تركت من المال. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا عاين المؤمن الملائكة قالوا نرجعك إلى الدنيا، فيقول: إلى دار الهموم والأحزان! بل قدوما إلى اللّه. وأمّا الكافر فيقول: رب ارجعون» {كَلَّا} ردع عن طلب الرجعة، وإنكار واستبعاد. والمراد بالكلمة: الطائفة من الكلام المنتظم بعضها مع بعض، وهي قوله: {لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحًا فِيما تَرَكْتُ} {هُوَ قائِلُها} لا محالة، لا يخليها ولا يسكت عنها لاستيلاء الحسرة عليه وتسلط الندم. أو هو قائلها وحده لا يجاب إليها ولا تسمع منه {وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ} والضمير للجماعة، أى: أمامهم حائل بينهم وبين الرجعة إلى يوم البعث، وليس المعنى: أنهم يرجعون يوم البعث، وإنما هو إقناط كلى لما علم أنه لا رجعة يوم البعث إلا إلى الآخرة.

. [سورة المؤمنون: آية 101].

{فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (101)}.
{الصور}- بفتح الواو- عن الحسن. والصور- بالكسر والفتح- عن أبى رزين. وهذا دليل لمن فسر الصور بجمع الصورة، ونفى الأنساب: يحتمل أنّ التقاطع يقع بينهم حيث يتفرّقون معاقبين ومثابين، ولا يكون التواصل بينهم والتألف إلا بالأعمال، فتلغوا الأنساب وتبطل، وأنه لا يعتدّ بالأنساب لزوال التعاطف والتراحم بين الأقارب، إذ يفرّ المرء من أخيه وأمّه وأبيه وصاحبته وبنيه. وعن ابن مسعود: {ولا يساءلون} بإدغام التاء في السين.
فإن قلت: قد ناقض هذا ونحو قوله: {وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا} قوله: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ} وقوله: {يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ} فكيف التوفيق بينهما؟ قلت: فيه جوابان، أحدهما: أنّ يوم القيامة مقداره خمسون ألف سنة، ففيه أزمنة وأحوال مختلفة يتساءلون ويتعارفون في بعضها، وفي بعضها لا يفطنون لذلك لشدّة الهول والفزع. والثاني: أنّ التناكر يكون عند النفخة الأولى، فإذا كانت الثانية قاموا فتعارفوا وتساءلوا.